16/05/2024

رؤية نقدية في مشكلة الحريّة

علي المرهج

15/06/2023
تكبير الخط
تصغير الخط

#علي_المرهج
منذ بداية التفكير الفلسفي، شغلت مشكلة الحرية الإنسان، فتجد هناك من يدافع عن هذه الحرية بوصفها حرية مطلقة، وآخرون يجدون أنها حرية مقيدة، وغيرهم يجد في الجبرية الإلهية نظرية تحل هذه المشكلة لتحيلها لأصل ميتافيزيقي، هو المسؤول عن قدرتنا من عدمها في الاختيار، بمعنى أن لا قدرة على الإنسان أن يحسم أمره بالاعتماد على عقله فقط.
قد تكون الفلسفة السفسطائية من أولى الفلسفات التي دافعت عن حرية الإنسان في التفكير، وأن كل إنسان له الحق في أن يعتقد بما يراه، فـ «ما يبدو لي ليس كما يبدو لك» كما يقول فيلسوفها (بروتوغوراس)، بمعنى أنني حر في ما أعتقده، فلو شعرت أن المناخ حار، فهو حار بالنسبة لي، ولو شعر الآخرون أنه بارد بالنسبة لهم.
تختلط عندنا تنوعات الحرية وتمظهراتها مع مفهوم الحرية وفق الرؤية الفلسفية، فالحرية بوصفها ممارسة فردية أو سياسية شيء والرؤية النظرية شيء آخر. على الرغم من دفاعنا عن الحرية بالمفهوم السياسي حرية فردية، الا تقترن شئنا أم أبينا ترتبط بالممارسة الديموقراطية، بوصفها آلية انتخابات يضع الفرد صوته في صندوقها بكل حرية، ولكن نتائج التصويت هي التي تلزم الفرد، وهو بالتالي رهين إرادة المجموع، حتى وإن كان غير مقتنع بالنتائج.
يؤكد علي الوردي أن لكل منا «قوقعته الاجتماعية» أو «إطاره الفكري» الذي ينشأ به، وهو في الغالب يكون رهين هذه القوقعة أوالإطار، وإن حاول الفكاك منها، ولكنها في المجمل هي من تفرض طبيعة الحياة على الأعم الأغلب، ولو كان هناك متمرد، فهو لا يلقى تأييدًا، وسيعاني من العزلة والنبذ.
يؤكد (زكي نجيب محمود) في كتابه «الجبير الذاتي» أن «الإنسان أسير الظواهر الطبيعية» وأن أكد دعاة الحرية المطلقة أن الإنسان قادر أن يفعل ما يُريد في الوقت الذي يريد بعيدًا عن تأثير الوراثة والبيئة التي نشأ فيها.
يطرح لنا (زكي نجيب محمود) طريقًا ثالثًا، بين الجبرية المطلقة والحرية المطلقة، ألا وهو «الجبر الذاتي»، بمعنى «أن لا تكون الجبرية والحرية ضدين»، أي أن تكون الحرية البشرية نوعًا من «الجبر الذاتي»، بمعنى «بمقدار ما يكون الفاعل مُكتفيا بذاته في تفسير الفاعل الإرادي فهو حُر إلى هذا الحد في الفعل، وهو بإنجازه له على هذا النحو إنما يكون مُحددًا بذاته ومُجبرًا ذاتيًا».
الفعل الإرادي فعل معلول، وحرية كل إنسان مُقيدة إما بفعل ذاتي منظم أو بفعل وراثي، لأن الماضي الذي عاش فيه يسكن في ذاته، وقد يتحكم في سلوكه.
تصور أنك تعمل في مؤسسة ما، فعل أنت حر، وفق فهمي لما طرحه (زكي نجيب محمود) وتوظيفه أنك يمكن أن تكون حرًا في أن تذهب لعملك في المؤسسة، التي تعمل فيها في القطار أو الباص أو مشيًا على قدميك، ولكنك مُجبر أن تذهب للعمل، وقد تطلب إجازة لظرف صحي تمر به أو أمر طارئ ألمّ بك، ولكنك ينبغي الغالب أن تذهب لتُنجز عملك كما ينبغي، ومن حق المدير المسؤول أن يُحاسبك في حل تقصيرك، وما عليك سوى الاستجابة، فأنت حر ومُجبر في الوقت ذاته.
يُمكن لنا أن نتحدث عن انتهاء زمن العبودية، ولكنه انتهى وفق الصيغة والصبغة القديمة التي وجد فيها، ولكنه موجود بصيغ أخرى قد تكون في بعض الأحيان أشد وأمرّ، فنحن اليوم أحرار في الدخول عوالم الثورة المعلوماتية، ولكننا في الوقت نفسه صرنا أسارى لها، ونحن أحرار في نقد المؤسسة، التي نعمل بها بحدود عدم قدرتها على مقاضاتنا قانونيًا، ولكننا أسرى تعليماتها وقراراتها، ولا يمكن لنا رفضها إلا من باب التوضيح والتصريح، ولكننا في النتيجة نُنفذ، وبعكس ذلك ينتعرض للمساءلة القانونية.
إننا نعيش «وهم الحرية» بتعبير (برهان الشاوي) لأن الإنسان محكوم بأيديولوجيات وعقائد وموروثات سماها علي الوردي «الوقوقعة الاجتماعية» كما ذكرت، وهي سجون العقل بتعبير (علي شريعتي)، ولكن الإنسان بتعبير (برهان الشاوي) «كائن حر في في أن يُحِب أو لا يُحَب،..أو ستشتري هذه الثياب أو غيرها، ويُناضل ضد الظلم، والاضطهاد والعنصرية...إلخ»، ولكنه «محكوم بالضرورات الكونية والبايولوجية وحتى الاجتماعية.
الحرية المتاحة للإنسان هي في ما يتعلق بمعارفه وبما يرغب في أن يختاره لنفسه ومن يخصه ويثق به، وغير ذلك كل إدعاء لحرية مُطلقة إنما هو من قبيل (الوهم. لك الحرية في أن تأكل وتشرب وتلبس ما تُريد، وأن تظهر إن كنت متمردًا في مظهر تختاره، ولكن من الصعب أن تتحكم في على سبيل المثال في «اللاوعي» أو «اللاشعور» الذي يتحكم في تحديد سلوكنا كما تحدث عن ذلك (فرويد) و «مدرسة التحليل النفسي»).

المزيد من مقالات الكاتب

الأكثر قراءة