17/05/2024

الديموقراطيَّة في الفلسفة

علي المرهج

25/03/2023
تكبير الخط
تصغير الخط

#علي_المرهج

قد يتصور البعض أن الديموقراطية هي أصل في نشوء الفكر الفلسفي لما للديموقراطية من علاقة بالحرية، وهذا الكلام في جزء منه صحيح، ولكن هذا القول لا يصح عليه التعميم، فقد نجد فلسفة نشأت في دول ليست ديموقراطية، لأن الديموقراطية في الفهم السائد لها بأنها رديفة للحرية إنما هو فهم معاصر، وحتى في تعريفها بأنها حكم الشعب للشعب، فذلك تعريف لم يقبل به كل الفلاسفة، وكان افلاطون ضد الديموقراطية لأنها تفترض المساواة بين جميع الناس، وهذا ما يرفضه، لأن الديموقراطية عادة ما تتساوق ورغبات الجمهور وتستجيب لها، ولا تعني إرادة الجمهور أنه على حق، لأنها تُغيب صوت الفرد الواعي، وتمنح العامة من بسطاء الناس غير الواعين وزنًا في إدارة الدولة التي قد تحتاج لإرادة فردية في القيادة.
انتقد كثيرٌ من المفكرين الديموقراطية بوصفها تمنح الحق في الانتخاب للجاهل لتساويه في العالم، لذلك يتساوى فيها صوت الجاهل مع صوت العالم.المشكلة في رفض الديموقراطية هو البديل، فهل البديل هو الاستبداد، وهذا بديل غير مضمونة عواقبه، أو كما يقول المفكر (هاني فحص) أن «مساوئ الديموقراطية أفضل من محاسن الاستبداد»، وهذا القول قد يُعيدنا إلى مقولة عبدالرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) التي فصلناها في بحث لنا بعنوان (فكرنا العربي المعاصر بين الفلسفة والأيديولوجية) ومنها: «أن الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية»، لأن «المستبد يسره غفلة الشعب، لأن هذه الغفلة سبيله لبسط سلطانه عليهم».
ما يثير في فكرنا العربي هو دفاع بعض المفكرين عن فكرة «المستبد العادل» وفي مقدمتهم الشيخ الأستاذ محمد عبده، الذي فصل د.عثمان أمين في كتابه (محمد عبده رائد الفكر المصري) بقوله «إنما ينهض في الشرق مستبد عادل»، وقد يكون في تلقي هذه الفكرة، لا سيما في مجتمعنا العراقي بعد الفوضى التي حدثت بإسم الديموقراطية ما يبرر مقبوليتها، وربما لا يختلف حال محمد عبده أيام احتلال البريطانيين لمصر في تمشدقهم بالديموقراطية، عن حال العراقيين اليوم ومعاناتهم من تبعات الديمزقراطية التي جاء الإحتلال الأمريكي لنا بها، لتنتج لنا ديموقراطية مساوية للفوضى، وما سميت (الديموقراطية التوافقية) التي كل شغل دعاتها من الساسة المتبنين لها خداع الطوائف والأثنيات بأنهم يمثلون مصلحة الطائفة أو الأثنية بشعارات مزقت الهوية الوطنية لصالح الهوية الفرعية.
ستظل فكرة «المستبد العادل» فكرة مثالية تأمل بها الشعووب مسلوبة الإرادة لأنها تمنحهم إمكانية الأمل بالخلاص من الفقر والظلم، وهي فكرة فلسفية لا تسقط بالتقادم، لأنه رديفة لفكرة المخلص في الديانات الذي «سيظهر آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا».
لم تولد الفلسفة الإسلامية بكل ما قدمته لنا من حضارة وتنوير عقلاني في أجواء ديموقراطية، بل ولدت في الأغلب الأعم في أجواء سياسية يحكمها حاكم مستبد، فلم تكن فلسفة الكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو الغزالي أو ابن طفيل أو ابن باجة أو ابن رشد أو ابن خلدون قد نشأت في أجواء ديموقراطية ولا فضاء للحرية كما هو اليوم، ولكنها نشأت في أوساط تحترم العلوم وأهميتها في تقدم الشعوب والحضارات. أوساط تؤمن بأن «الآخر» المختلف قد تكون في علومه ما يخدمنا في تحقيق الأفضل لصالح بناء حضارتنا.
كلنا نعرف أن في المجتمعات الديموقراطية هناك إمكانية لتصحيح الأخطاء، على العكس من المجتمعات التي تعيش في كنف الاستبداد، ولكن ما جعل المجتمعات الديموقراطية أكثر تحضرًا وتقدمًا في عالمنا المعاصر هو احترامها للعلم والعلماء وطاعتها للقانون، وأن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، ولا ميزة لشخص على آخر مهما كان أصله وعرقه وطائفته، لذلك نجد مفكرًا مثل (رفاعة رافع الطهطاوي) في إعجابه بالغرب والفكر الفرنسي على وجه التحديد، ومحاولته الكشف عن دفاع الإسلام عن العلم والحريات والمساواة.
تبقى الفلسفة فكرًا حرًا يتحرك من جميع الجهات إلى جميع الجهات بقصد إلغاء الإبعاد، كما يقول أستاذنا مدني صالح، ولكنها قد تعمل في الفضاء المتاح ويعمل أصحابها على انتشال الفكر من فقر التبعية إلى غنى الحرية المسؤولة.
مهمة الفيلسوف (أحيانًا) كسر القيود وإيهام السلطة بالتأييد من دون تملق يُفقده حضوره العقلاني، بقصد كسر المغالاة في خطابها السكوني، كما فعل الفاربي وابن طفيل وابن باجة واستكمل مسيرتهم ابن رشد في دفاعه عن العقلانية.

المزيد من مقالات الكاتب

الأكثر قراءة