16/05/2024

رثاء تموز.. تعطل للزواج الإلهي

ناجح المعموري

07/01/2023
تكبير الخط
تصغير الخط

#ناجح_المعموري                   

إن الدور الذي قامت به النسوة اليهوديَّات في هيكل الرب هو دور استعادي لوظيفة المرأة/ الأم بجذورها الإلهيَّة المعروفة، والتي كان مجالها مهيمناً في سورية وكنعان.  وقد أكد على ذلك هيغل في كتابه القس الرمزي، ولذا كان الندب وظيفة مواساة للذات الأنثوية المقموعة بموت الإله الشاب وقديس الزواج المقدس، غياب دموزي/ تموز، هو انكفاء الأنوثة إلى الداخل وتعطيل للجسد وإهمال للذته مؤقتاً وليس إلى الأبد. لم يكن من قبيل النزوة أو الاعتباط أن يحكم اللاهوتيون وصانعو الأسطورة السومريون على دموزي بالموت وإن كان وقتياً، بحيث يتركون جانباً مهماً وعد الزواج المقدس من دون وفاء، وإنما كان ذلك نتيجة حتميّة لملاحظاتهم الواقعيّة لـ «حقائق الحياة» فالزواج المقدس حقيقة مروعة لأنّه طوال نصف السنة، وفي أثناء فصل الصيف الطويل، الشديد القيظ والجفاف في بلاد مابين النهرين، يذوي النبات ويذبل، ويسود قحط وعقم الحياة في الاصطبل والحظيرة، مما قد يعني أن الإله المتكفل بهذه الفعاليات الأساسية قد مات وذهب إلى العالم الأسفل، ولم يعد بوسعه أن يؤدي مهامه. 

إنَّ اللذّة – هذا السرُّ الأعظم كما قال فوكو – هو العمود المهيمن وهي السارية الماثلة في الديانات الشرقيّة كلها، حيث صعدت لها من بلاد الرافدين وصارت عقيدة ومنظومة مرتبة بدقة من الطقوس والشعائر والنواظم الباقية حتى الآن.

  هناك إجراء لإنتاج حقيقة الجنس من جهة المجتمعات التي خص نفسها بـ «فن شبقي» وهي كثيرة، الصين، اليابان، الهنود، الرومان، والمجتمعات العربيّة، في الفن الشبقي تستخرج الحقيقة من اللذة بنفسها، المنالة كممارسة والمحصلة كتجربة، يحسب حساب اللذة لا بالنسبة إلى قانون مطلق يحدد المسموح، والممنوع، ولا بالاستناد إلى معيار المنفعة، إنما أولاً وقبل كل شيء، بالنسبة إلى ذاتها، يجب التعرّف اليها كلذة، ومن ثم حسب قوتها وصفتها النوعية، ومدتها وانعكاسها في الجسد والنفس.

إنَّ الذي كرّسته الديانات الشرقية القديمة هو الجنس كعقيدة دينيّة بلورتها الطقوس وسط المعابد وجعلت من اللذة مفتاحاً للحياة واندفع بني البشر لممارسته – الزواج المقدس – تبادليّاً مع الإله/ والملك؛ ولذا ظل الجنس مكشوفاً واحتفاليّاً، ومن هنا صاغ الزواج المقدس ثقافته ومعرفته.

لقد منح الزواج المقدس للجسد المذكر/ والمؤنث مجالاً خالداً وبه حاز البشري على صفات إلوهيَّة فيها قداسة فريدة وخاصة لأنّه – الزواج المقدس – وفر للجسد إمكانية الدخول للآخر عبر جسده وبواسطة الجسد، مع متعة فريدة ونسيان الزمن والحدود، إكسير إطالة الحياة، واستبعاد الموت وتهديداته. 

والاتصال اللذّي تحدٍّ للزمن – كما قال فوكو – والتموضعات وهو الطاقة المانحة لطاقتها الى الحياة، كي تظل بأبهتها، ومتحدية الموات. 

 كان الهيكل اليهوي المقدس مكاناً لتجمع النسوة اليهوديّات، وهن يؤدين طقس الندب والنواح. ولولا الهيكل، لما كان للبكاء والتعبير الجمعي عن الخسارة والعذاب – صفة مقدسة، ولا كان له – أيضاً – تعبيره الواضح والديني عن انتظارهن للوقت الذي يتحقق فيه فعل الزواج المقدس، الذي يؤكد قدراتهن الجنسيَّة لحظة اختبار الجسد عبر اللذّة ومن خلال نجاحهن بالدور الديني المرسوم لهن، كبغايا للإلهة عشتروت اليهوديّة.

ففي معظم الميثولوجيات القديمة، يكون عرش الإلوهيّة هو بيت الجنس المقدس، البيت الذي شهد اتحاداً جنسيّاً مقدساً بين كبير الالهة وأمهم الأولى.. إنَّ الاتصال المعطلة وظائفه قد قاد إلى نتائج سلبيّة في الحياة والطبيعة وتبديات هذا في سورية وكنعان معروفة جداً، حيث موجات الجفاف والقحط.. لهذا تمثل طقوس الحزن والبكاء على دموزي/ تموز في سوريا/ وكنعان دراما تراجيدية لم تعرف شعوب الشرق مثيلاتها. كذلك تجسد طقوس الفرح بالانبعاث لحظة تاريخيّة، صاغتها البنية الذهنية السورية/ الكنعانية بصوغ فريد، لهذا كانت أساطير الموت والانبعاث متميزة وذات خصائص وطنية، ولها تفاصيل تلتقي مع الأساطير العراقية، لكنها تظل متفرّدة بعناصرها الداخلية.

إنَّ الجنس في الميثولوجيات الشرقية سهل التعامل معه ومعقد في آن واحد. وتتكون صعوبة التعامل معه باعتباره ديناً من النظر إليه ويقود إلى قدسيات أخرى، تابعة له، إلا أنّه يفعلها ويحركها ويدفع بها الى الحركة ومغادرة السكون، لذا ليس من السهل حل رموز الجنس وآثاره كما قال فوكو.

كان موت دموزي/ تعطل – كما قلنا – للطاقة الجنسيّة الكامنة في الجسد، مثلما يعني توقفاً لقانون الألوهة المخلدة – دموزي/ تموز – خسر خلود، وصار مثل البشر الفاني، ينزل إلى الأسفل ومن ثم يصعد إلى الحياة، منبعثاً من جديد. ليمثل الحياة باستمرارها بعد موتها وهكذا تكون أسطورة الإله الشاب/ القتيل، أو النبات محكومة بالحركة الدوريّة والعود السنوي.
إنَّ الاتصال الثنائي يقود في المستوى الداخلي للقراءة إلى إقامة اتصال مع الأنوثة، عبر الفرج، والذي هو – أيضاً – محطة الحياة والعالم، ومنها تبدأ لحظة الاختيار وتحديد الحركة.

و – الفرج – سُرَّة العالم، فكثيراً ما يحدث أن تعبر التقاليد الكوسمولوجية عن رمزية المركز، بلغة قد يظن أنّها مستعارة من علة الأجنة. القدوس خلق العالم كما يخلق الجنين، وكما أن الجنين يكبر ابتداءً من السُرَّة كذلك بدأ الله الخلق ابتداءً من السُرَّة ومنها انتشر في جميع الاتجاهات.

وتظل طقوس الصعود/ البعث وتحققاتها الحياتية، الممثل لها بالزواج المقدس والدخول، الذي يبدأ بالاله والالهة أو من ينوب عنهما، الملك/ الكاهنة الكبرى والمواطنين مع بغايا المعابد العشتارية أو مع زوجاتهم. وبتلك الممارسات تقاد ولادة العالم/ والكون، حيث تمت محاكاة له عبر الزواج، حيث يعيد الزواج ولادة «السنة» ويهب الخصب للأرض والوفرة كما قال مرسيا الياد.
من غيره، إن لم يكن هو، صُنع من أجلي؟
من غيره، إذن صُنع من أجلي
كم هي فاتنة لحيته
هو الراعي الذي خلقه الإله من أجلي
إنه الملك! كم هي فاتنة لحيته

المزيد من مقالات الكاتب

الأكثر قراءة