16/05/2024

اللحى.. وقاراً وقناعاً

حسب الله يحيى

05/02/2023
تكبير الخط
تصغير الخط

في روايته الموسوعية الفذة (بندول فوكو) يقول الكاتب الايطالي أومبرتو ايكو :» كانت اللحية رمزا للفاشية في بداية الستينات، ولكن كان لا  بدَّ من رسم البروفيل وحلاقتها من جهة الوجنة على طراز ايتلاو بالبو، اما في عام 68، فكانت رمزاً للمعارضة، والآن في سبيلها لأن تصبح محايدة وعالمية، علامة للتعبير عن الاختيار الحر.. كانت اللحية دائما قناعا، يضع المرء ذقنا مستعارة لكي يخفي شخصيته..»
أورد هذه المقولة لاومبرتو ايكو بهدف مناقشة ماصار يعرف بزمن (اللحى) ومع أن اللحى في كل الازمنة العراقية، كانت رمز الحكمة والوقار وختام الزمان والأعمار التي شاخت وباتت تصبو إلى الورع والتقوى والتهذيب وحسن الخاتمة، والانصراف إلى الاهتمام بالآخرة بعد إنْ كانت تغيب أيام الصبا والشباب والنضج ابتغاء الجمال والرشاقة، ولفت الانتباه إلى الحيوية التي يتمتع بها الفرد.
اما في الشيخوخة فباتت تعني احترام المرء لنفسه وزهده عن متاع الدنيا.
إلا أن الحال والأحوال.. اختلفا، وأصبحت اللحى على ذقون الشباب مثلما هي على ذقون آبائهم وأجدادهم.
واذا كان الشباب يريد من العناية بأطالة ذقنه في لحية مرسومة ومنسقة ومشذبة، للظهور بمظهر النضج والوجاهة ؛ فإنَّ الشيوخ اعتمدوا عن طريقها للظهور بمظهر الزهد بالدنيا.. أو أطلقت اللحى لإبراز أوجه الوقار والسماحة، وأن كل صفات الشر والكذب والرياء والمخادعة بعيدة عنها..
مثلما صار عدد من المجرمين والقتلة والمفسدين يعملون على أطالة شعر لحاهم وذلك بهدف التمويه والتستر والمخادعة أو لاضاعة شخصياتهم المكشوفة وأخفاء ملامحهم الحقيقية بإطلاق اللحية ليصبح الوجه قناعا للتخفي والتنكر.. كما لو كان مكياجا أو صورة اخرى لشخصية مطلوبة للعدالة.
وكذلك يفعل عدد من الفنانين والأدباء بإطلاق لحاهم تقليدا لعدد من رواد الثقافة والإبداع في العالم، وكأنهم نسخة من مظهرهم الدال على عمق الوعي والتميز.
إلا أن ما يجري الآن في حياتنا الراهنة هو انصراف الكثيرين من الشباب والشيوخ ـ على حد سواء في تربية اللحى ـ لتكون تمويها عن أعمالهم الشريرة وأساليبهم المخادعة وأعمالهم الفاسدة وسرقتهم للمال العام من دون وازع ضمير، ولا أخلاق ولا احترام للحية الوقور المزروعة بين ذقونهم بكل بهاء..
وهذا الواقع المر لا يمكننا إعمامه على الجميع وانما على الغالب من شبيبتنا وشيوخنا.
ذلك أننا نعتقد بأن سماة الشخصية لا تكمن في الشكل المجرد عن السلوك.. فالسلوك صنو الشكل، ولا يمكن لأي منا أن يظهر بمظهر الورع والتخفي، في وقت تتم مخادعة الناس والتزيي بزي السحرة والكذبة واللصوصية من قبل الذين يستغلون الناس، ويسخرون كتمانا بواقعهم وأحلامهم وقيمهم.. وهو ما ينبغي الانصرف إلى الانتباه اليهم، وعدم الاستسلام لمظاهرهم الكاذبة والمخادعة.
إن يسر اليد وكرمها ونقاءها، والابتسامة السمحاء، والحكمة الدالة العميقة والصدق ونزاهة الضمير والسيرة الحسنة في التعامل مع الناس؛ لا يمكن أن نحصرها في لحى لا تملك سوى مظهرها، بينما تتخفى تحتها بكل ما هو مشين وسيئ والتعامل مع الناس ومع الحق.
من هنا نرى أن اللحى سمة للطيبة والتسامح والمحبة وليس للشر والحيلة والضحك على ذقون الاخرين.

إنَّ مئات الحكايات الشعبية كانت قد تداولت موضوعة اللحى، بوصفها قناعا للمخادعة واظهار عكس ما يحمله المرء من سلوك مشين، حتى اذا اكتشف أمر هذه الاقنعة ؛ تبينا ما وراء صاحبها من كذب ونفاق وجدل.
لحانا.. ليست قناعا كما تفهم، وليست وجاهة كما تظهر؛ إنما هي سمة من سمات الطيبة والحكمة التي نحترم فيها جلال القدر ونظافة اليد والقلب واللسان.. ذلك أن صورة الحقيقة لا بد أن نتبينها بالإبقاء عليها أو الاستغناء عنها.. ذلك أن الحقيقة لا يمكن أن تظل مكتومة وموهومة ولا يمكن كشفها.
الاشياء كلها تتجرد ويفتضح امرها امام شمس الحقيقة التي لا تعترف بالشكل وانما بالمحتوى.

المزيد من مقالات الكاتب

الأكثر قراءة